الأربعاء 05-نوفمبر-2025 - 14 جمادى الأول ، 1447

مداخل الشيطان

25
2024-12-05

خطبة جمعة

مداخل الشيطان

 

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

الحمد لله الذي خلقنا من عدم، وأسبغ علينا وافر النعم، كبرنا من صغر، وقوانا من ضعف، وأطعمنا من جوع، وسقانا من ظمأ، وكسانا من عُري، وشفانا من مرض، وهدانا من ضلالة، وعلمنا من جهالة، وحبب إلينا الإيمان، وعلمنا القرآن، وعلمنا البيان، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

وأصلي وأسلم على قدوتي وقرة عيني، وحبيبي محمد بن عبد الله، وارض الله عن خلفائه الراشدين، وأصحابه الطيبين، ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدين.

عباد الله..

أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق).

وأوصيكم أن تجددوا إيمانكم، فإن الإيمان يخلَق كما يخلَق الثوب القديم، وتجديده، بترديد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

اللهم ألِّف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور.

اللهم انصر إخواننا المجاهدين، في فلسطين وأفغان، وفي كل أرض يذكر فيها اسم الله.

اللهم أكرم الشهداء، وثبت الغرباء، وفك المأسورين، واجبر كسر المكسورين.

اللهم نسألك لأمة محمد خليفة ربانياً، يملأ الأرض عدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، ونعوذ بك اللهم من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ونسألك كما صنت جباهنا عن السجود لغيرك، فاحفظ أيدينا من أن تمتد لأحد سواك.

اللهم اغننا برحمة من رحماتك المغنيات الغافرات المنجيات، تغنينا بها عن رحمة من سواك.

أحبتي في الله..

ما أحوج المسلم يوم القيامة إلى الرفيق، والصديق، في يوم يفر المرء فيه من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته (أي زوجته) وبنيه، والرفيق للمؤمنين في يوم القيامة خير الرفقاء، ما تقول برفقة آدم، أبي البشر، وكلنا يشتاق إلى صورته، وإلى رؤيته، كيف لا وهو أبونا أجمعين، وخلقه الله ستون ذراعاً في الفضاء، عملاقاً جمع صلبه كل ذريته إلى الدين؟!

وكيف لا نشتاق إلى نوح النبي الرسول الصابر المحتسب، الذي دعا من أجل ربه وتحمل أذى الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً؟! كيف لا نشتاق إلى إدريس؟! كيف لا نشتاق إلى موسى، وعيسى، والنبيين، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم؟!

والإنسان في أقصى الأرض ليس من لونه ولا لغته، ولا أرضه، إذا أسلم وسمع اسمه، صلى عليه وارتجف قلبه، وفاضت عينه، ويشتاق إليه، لو رؤية يراها في المنام، ثم يفقد بعدها أهله وماله وولده، وهذه البشرى يعلن عنها القرآن، إعلان في القرآن يقول الله فيه: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) (النساء: 69).

كيف شعورك لو قبض محمد بيدك وأدخلك معه الجنة لأنك كافل يتيم؟! كيف شعورك لو دعاك النبيون إلى قصورهم وحدائقهم، ودورهم، وأنهارهم، وأشجارهم، وجلست تأكل معهم وتشرب في نعيم الله ورضوانه؟!

يا تعاسة من فرط برفقة الصالحين، وأضاع محبة المؤمنين، وصار من المهرجين المطبلين والمزمرين، الذين يجرون خلف كل ناعق وزاعق! ويوم القيامة يصيح: (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ {100} وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ {101} فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء).

ومع هذه الرفقة المباركة، هناك المليك، وأي مليك! مليك مقتدر، كل السلاطين والملوك غير مقتدرين، وهذا تبع لأمريكا، وهذا تبع لروسيا، وهذا تبع للصين، تظن أن عندهم اقتدار، ولكنه لا يستطيع أبداً حتى أن يستشير الأسياد، وتجده يوماً من الأيام يقول: لا أستطيع، أما الله فلا يقول: لا أستطيع، سلاطين الدنيا تمر عليهم لحظات يقولون: لا نقدر، أيتها الشعوب، يقولون: لا نقدر، البيت الأبيض يضغط، والبيت الأحمر يهدد؛ (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (الإسراء: 111).

هذا المقعد المبارك، يقول الله عنه، مع هذه الرفقة الطيبة، وما يدريك، لعلها لحظات، لحظات، فلان نسمع به في الصباح، معافى يخبط الأرض برجليه وفي المساء يشيَّع؛ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ {54} فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) (القمر)؛ مقتدر، مقتدر أن يريك وجهه الكريم، مقتدر أن يعطيك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

لا تطالب غير المقتدر، فتمد يدك إلى العبد الذليل، إنما مُد يدك إلى الله، الله أنجح ما طلبت به، والبر خير حقيبة الرحل، الله خير وأنجح ما طلبت به، فاطلب بالله، فاطلب بالله وحده، وقل: اللهم اجعل الدنيا ولا تجعلها في قلبي، وارزقني منها ما تكفيني فتنتها، واجعل حظي الأكبر والأوفر يوم لقائك.

دع الدنيا لعبيد الدنيا، لا تحسدن مؤمناً ولا كافراً على نعمة، كيف تحسد مؤمناً على نعمة، والجنة أعظم منها؟! وكيف تحسد كافراً على نعمة وراءها النار؟!

إنما إن كان هناك حسد، ففي فتنتين؛ رجل آتاه القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله المال فسلطه على هلكته في سبيل الله.

المليك المقتدر يسلم، يسلم، الزعماء والملوك والسلاطين لا يسلمون على الرعية، ينتظرون الرعية الذين يقومون لهم، ويقبلون أكتافهم وأياديهم وأقدامهم، وعار عليه أن يقول: إن يقول للفقراء السلام، أما السلام، فمنه السلام، وهو السلام، يقول الله سبحانه لمن يعتز بالسلام: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) (يس: 55) في شغل، وأي شغل! استمع: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ {56} لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ {57} سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) (يس).

وهناك الفرح الأبدي، الدنيا فرحها لا يدوم.

ولا تفرح ولا تحزن لشيء

فإن الشيء ليس له بقاء

وكن رجلاً على الأهوال جلداً

وشيمتك السماحة والسخاء

يغطى بالسماحة كل عيب

وكم عيب يغطيه السخاء

إذا ما كنت ذا قلب قنوع

فأنت ومالك الدنيا سواء

الفرح الأبدي هناك، الذي لا حزن فيه، ولا حزن، يقول الله عنه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ {34} الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) (فاطر).

لا نصب، لا تعب، لهذا لما تعبت خديجة أم المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم في وادي المقاطعة، الذي مكث فيه الحبيب جوعان ثلاث سنوات، يقول: «مرت علينا وليس لنا طعام، إلا ما يواريه إبط بلال»، ويقول سعد بن أبي وقاص: كنت أتبول فسمعت قعقعة تحتي فإذا هي جلد يابسة لشاه، فأخذتها وغسلتها وطحنتها، وسففتها، وتبلغت بها ثلاثة أيام!

هذا النصب والتعب من أجل الله، فماذا كافأ الله خديجة؟

أنزل الله بعده عليها جبرائيل، يقول: «يا رسول الله، إن الله يقرئ خديجة السلام، ويبشرها بقصر وبيت في الجنة من قصب (أي من لؤلؤ مجوف)، لا نصب ولا صخب»، فقالت خديجة: الله هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك أنت يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته.

الفرح الأبدي، يكون هناك في مجلس من مجالس الشرب، الذين حرموا أنفسهم مجالس الشرب في الدنيا، وما أدراك ما الدنيا؟!

يؤتى بالشرب من أقاصي الأرض، هدايا محمولة، منها ما يكون في حقائب دبلوماسية، ومنها ما يكون فوق القانون، فيتجاوز المراقبة والتفتيش، ومنها ما يقول لك الغاوي والمغوي، إذا جاء المسكين لكي يتوب، قال له: لمَ تتوب؟ بعدك شباب، اشرب، وتمتع، فيقول له: ما عندي، فيجيبه: أنا أشتري لك!

ويدعوه من حفلة إلى حفلة، ومن مجلس إلى مجلس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من شرب الخمر في الدنيا لا يشربها يوم القيامة»، لا يشربها في الجنة؛ أي من مات ولم يتب منها، مجلس الشرب يقول الله عنه: (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ {49} جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ {50} مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ {51} وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ) (ص)، هل هناك أجمل من هذا المجلس؟!

قاصرات الطرف، الحور، بنات الجنة معهم، في مجلس الشرب، الأبواب مفتحة، لا يُمنع أحد، ولا يصد أحد، مجالس كلها أنس وبهجة وسرور، يرفلون في ظل ظليل، وفي نعمة رب العالمين، حياة دائمة، نعيم مقيم، أمن لا يتزعزع، ومهما شرب الشاربون في الدنيا؛ فهو التنغيص والمرض والسرطان الذي يطاردهم، وهمّ المعصية، وما دعتني دواعي النفس معصية إلا وجدت لها في النفس ظلماء، انظر إلى وجوههم، تجد ظلمة الذنب تخيم عليه.

سبحان الذي طيّب أهل الجنة! سبحان الذي جعل طعام أهل الدنيا ما نعلم، وجعل طعام أهل الجنة رشح المسك!

يقول الله سبحانه وتعالى عن السلام والأمان، في زمن زعزع فيه الأمن والأمان، أما دخول الجنة ليست كدخول أبواب السلاطين؛ من تفتيش، وتنبيش، وتدخل وأنت خائف، وتخرج وأنت خائف، قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {45} ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ {46} وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ {47} لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ) (الحجر)، وينزع الله الغل من الصدور من القلوب المؤمنة.

في كل قلب مسلم غل، أخفاه الله وطواه، لا يُنزع إلا عند أبواب الجنان، قد يضغط عليه المسلم بمعاني الإيمان والأخوة، فيقول: إني أحبك في الله، ولكن يخفي في صدره ما يعلمه مولاه لأنه بشر، لهذا نجد بعض العلماء يتحاسدون، وبعض الدعاة يتفرقون، وبعض الناس يغتاب بعضهم بعضاً، كل ذلك من الغل الموجود في الصدور.

يقول الشاعر:

أمامَكَ، يا نَوْمانُ، دارُ سَعادَة

يَدومُ البَقَا فيها، ودارُ شَقاءِ

وفي النّاسِ شرٌّ لوْ بَدا ما تَعاشَرُوا

ولكِنْ كَسَاهُ اللهُ ثوبَ غِطَاءِ

كساه الله ثوب غطاء، وهذا موجود، يعني أنت تعزم شخصاً أحسن عزيمة، وأفخر وليمة، والزوجة تعد المقليات والمشويات، ولما يخرج من العزيمة يسأله أحدهم: كيف حال عزيمة فلان؟ فيقول: والله زينة، لولا أن السلطة ما فيها ملح.. الله أكبر، كل هذا الخير الذي أكله، ومع ذلك يتنكر لصاحبه! وهكذا هو الإنسان، إلا من رحم الله، حتى الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، تقاتلوا وكلٌّ يرى أنه على الحق، ويلتفت عليّ بن أبي طالب إلى طلحة بن عبيد الله وهو مجندل في ميدان القتال، فيقول: عسى أن أكون أنا وهذا ممن قال الله فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ).

فمن عفا هنا عُفي عنه هناك، ومن سامح هنا سومح هناك، وأعطى هنا أُعطي هناك، ومن أطال الوقوف بين يدي مولاه خفف عليه الوقوف عنده.

وفي الأثر: لو تكاشفتم ما تدافنتم؛ أي لو تكاشف الناس ما تدافنوا، لأُلقيت الجثث من الحقد والغل في الطرقات، ولكن الله ستر، ستر، لطف الله بنا أن الخطايا لا تفوح.

أحبتي في الله..

ورزق هذا رزق معلوم، بعد الكبراء والوجهاء ما يصير وجيهاً ولا كبيراً إلا إذا صار رزقه معلوماً، لديه فراشون يشترون له من الشبرة، وفراشون يشترون له من المجزرة، وفراشون يشترون له من السوق، وهو جالس مرتاح.. وكل واحد عارف أسواق السمك، عندما يحضر أطايب السمك في وقت بيعه، يرفع له من رأس مرفوع، هذا في الدنيا رزق معلوم، ولكنه معدوم، معدوم، ينتهي، لك من مالك ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدقت فأبقيت، وهذا البقاء يقول الله عنه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ {41} فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ {42} فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ {43} عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ {44} يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ {45} بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ {46} لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ {47} وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ {48} كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ) (الصافات).

اللهم إنا نسألك الرزق المعلوم، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.

اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم استعملنا فيما يرضيك، ولا تشغلنا فيما يباعدنا عنك، واقذف في قلوبنا رجاك، واقطع رجاءنا عمن سواك، حتى لا نرجو أحداً غيرك، يا أرحم الراحمين، آمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد، أحبتي في الله..

وما بين الإنسان يملك الأموال، ويأتيه المسكين يقرع الباب يذكره الفقير بفقره إلى الله، وتقول له: يا مسكين، أنت ترى إذا البنك الفلاني خسر، أما تحول أرصدتك وأموالك إلى بنك آخر، أو إلى مؤسسة أخرى تربح من ورائها؟ إذا رأيت الشركة، إذا رأيت المؤسسة، هبطت أسهمها، ألا تشتري أو تشارك، في مؤسسة أسهمها رابحة؟

والإنسان في الدنيا يموت وأمواله لا تأكلها النيران من كثرتها، فلا يحولها إلى هناك، لا يحولها إلى خزينة الرحمن، لكي يلقاها!

وابن المبارك يقول: الدينار ديناران؛ دينار تحرسه، ودينار يحرسك، أما الذي في يدك فأنت تحرسه، والذي في يد ربك هو الذي يحرسك عند الله يوم القيامة.

استمع ماذا يقول الله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ) (يس: 47)، دعاء: أنفقوا مما رزقكم الله، اسمعوا الرد، رد ساخن، يستهزئون بالمؤمنين الطيبين: (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) (يس: 47)؛ يستهزئون بالله، ويستهزئون بالمؤمنين، ويقولون: لماذا هذا صار فقيراً، لو الله أراد له الخير أطعمه؟! لماذا لا يصير غنياً مثلنا، نحن خرجنا من بطون أمهاتنا أغنياء، ولو شاء الله أطعمه؟! فهذه والله التي محقت أموال سوق المناخ والبورصة، وهذه التي أدخلت الناس السجن، حتى الآن أسر تنهدم، وأسر تشرد، ورجال يمنعون من السفر، ورجال يعلنون إفلاسهم مع الذل والعار.. هذه الكلمة، وهذه لا يشترط أن يقول قائلها، فلسان الحال أشد من لسان المقال.

ونحن لا ننسى البخور الذي كان يبخر السوق بليلة واحدة بثمانين ألف دينار! وكانت تعقد موائد الطعام بعد منتصف الليل، يداس الأرز والخبز بالأقدام! ولا ننسى الحفلات الصاخبة التي تُصنع فيها تماثيل الكعك على أشكال النساء، ويشربون منها الخمور، من مكان عفتها! وتوضع دنانير الذهب في قوالب الثلج، يُسكب فوقها الخمر لكي يشربوها!

الله رحمنا، وتفضل علينا إذ أبقانا حتى هذه الساعة موحدين، وإنما أعظم انتقام لله أن يسحب المولى الدين والإيمان والتوحيد، ويضرب قلوب الناس بعضهم ببعض؛ (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ).

كل يوم يأتيني وافد مسكين، مسجون أو مهدد بالحجز والطرد، من الغارمين، منهم من لديه مطحنة، ومنهم من لديه بقالة، كلهم تورطوا، سحب المرابون أموالهم وهربوا بها إلى الخارج، ليفتحوا بها الملاهي والبارات، وألقي هؤلاء في السجون والمعتقلات، ولا يوجد في الشرع الإسلامي أن يسجن الغارم؟ لماذا شرّع الله الزكاة؟

الزكاة حق الفقير، يؤخذ من الغني ويرد على الفقير، بيت الزكاة لا يجدي، من يتزكى في بيت الزكاة، إلا من رحم الله، ودائماً بيت الزكاة يعلن عجزه، ويعلن فقره، وهو بيت الزكاة، بيت الزكاة فقير! الزكاة فريضة، كفريضة الصلاة، وأبو بكر يقول: «والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، ولو على عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم».

أخرجوا المساكين من السجون، أخرجوا هؤلاء الوافدين المساكين الذين تورطوا، أخرجوهم، زكوا.

سنة 1970م أحصينا زكاة أحد الكويتيين، فكان حق الفقير في أمواله 77 مليون دينار!

الآن، كم بلغ حق الفقير في أمواله؟!

ويسجنون هؤلاء الغرماء ويحجزون عليهم، ويشردونهم، وإذا كان ذا وساطة أو وجاهة، فلا يتعرضون له؛ (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (يس: 47)، المؤمنون في نظرهم في ضلال مبين، لماذا المؤمنون في ضلال مبين؟! لأنهم قالوا لهم: أنفقوا وأعطوا المساكين.

(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (يس: 48)، متى القيامة؟ متى الوعد؟ ويأتي الجواب حاسماً بثلاث صيحات: صيحة موت، وصيحة بعث، وصيحة في النار، قائمين أمام الله رب العالمين، للحساب السريع.

ويكون الجواب أسرع من سؤاله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {48} مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) (يس)؛ الصيحة تأخذهم وهم يتخاصمون، في البيع، وفي الشراء، اعتمد.. يتجادلون.. يتناقشون، وإذا الكل خامدون، حتى ما يستطيعون كتابة الوصية.

(إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ {49} فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ {50} وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ {51} قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) (يس)، فيجيبون أنفسهم: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ {52} إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ {53} فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (يس)، يا لها من حسرة! ويا لها من ندامة!

يقول الله سبحانه وتعالى عنها: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم) (الزمر: 55).

هل تجدون أحسن من الإسلام؟! هل تجدون أحسن من القرآن؟! هل تجدون أحسن من محمد صلى الله عليه وسلم؟!

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ {55} أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ {56}‏ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {57} أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الزمر).

من يجاوبه بعد هذا النداء؟! والحسرة.. الله.. الله يجاوبه؛ (بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (الزمر: 59)؛ يا له من جواب يرتجف له القلب، وتنفصم له الروح، وتنخلع له النفس!

(وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ) (إبراهيم: 21)؛ الضعفاء، يركضون وراءهم، ويفتحون أبواب السيارات لهم، ويمسحون البشت، ويحبون الخياشيم، ويفتحون الأبواب، ويتزلفون لهم بالكلام: طال عمرك، أنت الكبير، أنت الكل، أنت الأب.. أين ذلك يوم القيامة؟

(وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا) (إبراهيم: 21)؛ اسمع الطلب، حتى يوم القيامة، الذليل الحقير الذي كان تابعاً في الدنيا، وهو في يوم القيامة عند الله، عند الجنة، وعند النار، وعندما يطالب المتكبر بأن يشاركه في العذاب، يطالبه وهو ذليل، واستمع إلى ذلك: (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ) (إبراهيم: 21)، آخر كلمة (مِن شَيْءٍ)، قل: شاركنا في العذاب.. لا يستطيع.. لأنه ذليل، ذليل في الدنيا، وذليل في الآخرة، أمام ملك الملوك يخاف من ملك الدنيا؛ (فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ)، مسكين، حقير، هكذا يجعله الله كما كان في الدنيا.

اسمع جواب المتكبرين: (قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) (إبراهيم: 21)، يلقون القضية على القضاء والقدر، الله هو الذي جعلنا ضالين؛ (قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) (إبراهيم: 21).

لأول مرة يعترف الشيطان بالحق، لأول مرة يكون الشيطان صادقاً، فهو ما دام في الدنيا فهو دجال منافق كذاب طاغوت، وهناك يوم لا ينفع صدقه يكون صادقاً، يوم أن يقضى الأمر؛ أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة، يكون الشيطان صادقاً، فاستمع: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ) (إبراهيم: 22)؛ الله يقول: قضي الأمر، ما الفائدة؟ انتهى الأمر.

(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ) (إبراهيم: 22)؛ الآن الشيطان يظهر ضعفه، ضعيف، ما لي عليكم من سلطان أبداً، لم أضع مسدساً على رأسك أبداً!

(وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (إبراهيم: 22).

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) (الفرقان: 27)؛ يأكل يديه من الندم؛ (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً {27} يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً {28} لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً) (الفرقان).

(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (المدثر: 42)؛ سؤال من ثلاث كلمات.

الجواب: كافرون.. انتهى الأمر.. لا.. استمعوا إلى الجواب، فالجواب طويل؛ لأنه لا أحد يكلمهم.. كبت وإرهاق وتعب، يريدون أن يسألهم أحد حتى ينفّسون عن أنفسهم؛ (} مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {42} قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ {43} وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ {44} وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ {45} وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ {46} حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) (المدثر).

من يعترض الآن؟ (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر: 48).

اللهم إنا نسألك شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في دخول الجنة، اللهم لا تحرمنا شفاعة الشافعين، ولا تحرم المشفوعين شفاعتنا يا رب العالمين، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، واجعل خير أيامنا يوم لقياك، اللهم إنا نسألك ألا تخزنا يوم يبعثون.

اللهم إنا نسألك الجنة ونعيمها، ونعوذ بك من النار وجحيمها، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضنا إليك منها غير مفتونين، واهدنا لما اختلف فيه من الحق، بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

إنا الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.

اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

تحميل