الخميس 12-ديسمبر-2024 - 10 جمادى الآخر ، 1446
تسجيل الدخولإخلاص النية لله رب العالمين
إخلاص النية لله رب العالمين
حديثي حول أخطر قضية، حول قضية أما إنك تأتي بها يوم القيامة فتجد شق التمرة كجبل أحد قد حجز بين وجهك والنار.
وأما أن تأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة وذكر ثم لا تجد ذرة من حسنة في ميزانك.
أخطر قضية إخلاص النية لله رب العالمين.
وقال تعالى في كتابه الكريم موجهاً كلامه إلى الذين انحرفوا في نياتهم وأشركوا بالله.
قال سبحانه: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (سورة البينة، الآية: 5)، اليهود والنصارى وأصحاب جميع الأديان التي أنزلها الله وحرفت وانحرفت قلوبهم وكثير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أُصيب بهذا الداء والوباء الخفي مرض الرياء والشرك الأصغر الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم فيطمس النية ويقتل الإخلاص ويُحبط العمل فيأتي الإنسان فلا يجد أمامه عند الله شيئاً.
الله كلفنا ولم يُعسر الله أمر ولم يُحرج.
{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}.
أين المشقة في ذلك؟ أين التعسير في ذلك؟ ولكن الإنسان هو الذي يشق على نفسه ويعسر على نفسه.
وجاء الحبيب صلى الله عليه وسلم يُقعّد لهذه القضية الخطيرة بحديث عظيم تُفتح وتصدر به كتب الفقه الذي يرويه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (متفق على صحته، رواه إمام المحدثين البخاري ومسلم في كتابهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة).
قال الشافعي: هذا الحديث ثلث العلم ويدخل في سبعين باباً من الفقه.
الأعمال بالنيات القول الفصل الحد الفاصل بين الحق والباطل، رجحان كفة الإيمان أو كفة الشيطان لا بالصور ولا بالطول ولا بالعرض ولا بالجاه ولا بالحسب ولا بالنسب، الحمد لله الذي أنطق محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث العظيم.
أيها المسلمون: انطلاقاً من هذا الحديث سنضع بعض اللمسات.
قال صلى الله عليه وسلم: "لأعلمن أقواماً يأتون يوم القيامة بحسنات كأمثال جبال تُهامة بيضاء يجعلها الله هباء منثوراً، ألا إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، غير أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها". (من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثوراً، قال ثوبان يا رسول الله: صفهم لنا حلهم لنا لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: أما هم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" رواه ابن ماجه ورواته ثقات).
لهم حسنات كثير كالجبال البيضاء فإذا مدوا أيديهم ليأخذوها لم يجدوا شيئاً وساقتهم الزبانية إلى النار، جعلوا الله يوم أن خلوا بالمعاصي أهون الناظرين لهم.
عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (رواه مسلم).
ولو كان النظر إلى الصور والأجسام لخرجنا من المسجد بخفي حُنين لأننا مساكين على باب الله واقفين، وكفى بالله منعماً ومعيناً، فمن كان الله معه فهو بالله كثير، ومن كان الله دونه فهو دن الله قليل، ولو وقف معه أهل الأرض والجن والإنس.
وقال سبحانه: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين} (سورة الزمر، الآية 11).
والله في كتابه يُرينا على هذا الإخلاص ويدفعنا إليه وهو شعار كل مصلي عندما يفتتح صلاته: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (سورة الأنعام، الآيات: 162 – 163).
هكذا يقولها كل مسلم وهو يستقبل الله في صلاته.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن هذه النية: "الناس أربعة" تفكروا "رجل أتاه الله مالاً وعلماً فهو يعلم أن لله في حق وللرحم فيه حق، وذلك في أعلى المنازل، ورجل أتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فيقول: يا ليت لي مال فلان فأعمل بعمله فهو نيته فهما في الأجر سواء".
تأتي يوم القيامة بهذه النية المعقودة، وقد أعطاك الله بعدد أموال أهل الأرض حسنات، ودعوا أصحاب الأرصدة أصحاب الكنوز، دعوهم يجمعون لعذابهم يوم القيامة.
"ورجل أتاه الله مالاً ولم يُعطه علماً فهو لا يرى أن ليس لله فيه حقاً ولا للرحم فيه حقاً وهذا في أسوأ المنازل"، هذا الرجل الرابع التعيس المنكوس لم يؤته الله مالاً ولا يؤته علماً فيقول: يا ليت لي مال فلان فأعمل بعمله فهو نيته فهما في الوزر سواء، تمنى أن يكون له مال الفاسق لكي يفسق به ويفعل المعاصي، يأتي يوم القيامة مع فقر الدنيا فقر الآخرة وعذابها".
أيها الكرام:
إنما الاعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، لأن الله لو أعطاه هذا المال لفعل ما قال، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في هذه القضية: "إن بالمدينة أقواماً ما قطعنا وادياً ولا وطئنا موطأ يغيظ الكفار ولا أنفقنا نفقة ولا أصابتنا مخمصة إلا شاركونا في ذلك وهم بالمدينة حبسهم العذر" (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لقد خلفتم بالمدينة رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سلكتم طريقاً إلا شركوكم في الأجر، حبسهم المرض" أخرجه مسلم، والبخاري من حديث أنس).
هؤلاء القوم شاركوا بحُسن النية.
ويقول صلى الله عليه وسلم في هذه القضية، عن أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قلت: هذا القاتل يا رسول الله، فما بال المقتول، قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه" (متفق عليه).
عقد النية على قتل أخيه المسلم ومع أنه هو المقتول يُلقى معه في النار بنيته من أكبر القضايا والناس عنها غافلون.
قيل لأحد الصالحين: هيا بنا نشهد الجنازة، فقال لأخيه: انتظر، لماذا هذا الانتظار؟ حتى يجدد نيته لله رب العالمين، ثم قال: انطلق فتذكرت في هذه الحادثة فوجدت الكثير من الناس متورط بها.
إذا هلك رجل مشهور مما يُشار إليه بالبنان ما أعظمه ما أكرمه ما أعلمه وهو لا يسوى عند الله جناح بعوضة، وذهب الناس والملأ يتهافتون على قبره وجنازته، ورأيت أصحاب الغنى من الناس يتطلعون ذات اليمين وذات الشمال حتى يراهم أهل الميت وحتى لا يغضبوا عليهم، وأحدهم يشرب السجائر ويجلس على القبور وأحدهم يبيع ويشتري وهو تارك الصلاة ووقف يُصلي بلا وضوء خلف الجنازة.
يأتي أولئك يوم القيامة وتأتي قضية جنازة فلان فيأمر الله أن تفتح سجلات الجنازة... من شهدها؟ فلان بن فلان مغمور فقير حافي القدمين، ناحف الجسد، دامع العين، خاشع القلب.
المولى تبارك وتعالى: ضعوا في ميزانه قيراطين القيراط كجبل اُحد.
ومن حضرها؟ فلان بن فلان، صاحب المعالي، صاحب الثراء، صاحب السيارات والعقارات.
انظروا نيته فإذا بها سوداء ما جاء إلى المقابر ولا الجنازة بإخلاص لله فإذا به لا يجدوا في ميزانه حسنة واحدة.
أيها المسلمون: انتبهوا إلى هذه القضية الخطيرة وعالجوا قلوبكم وأنفسكم فإن أصعب علاج هو علاج النفوس ومن الأمور التي نراها كثيراً ممن يتظاهرون بالصلاح ويكتبون في قضايا الوطن والوطنية، ويكتبون مدافعين عن حقوق الآخرين، ولهم أقلام سيالة، ولهم صحف منشورة، ثم يوقعون في أواخر كلامهم والله من وراء القصد، أي وراء النية، نعم هذا حق الله وراء القصد، ثم ترى العجب، هذا المقال هجوم على الحجاب، والرسول صلى الله عليه وسلم يوجه أمته فيقول: "الشرك يرجي من ابن آدم مجرى الدم، والرياء هو الشرك الأصغر، والشرك مع الرياء مع الشيطان يقترنون لإحباط العمل يوم القيامة.
أيها المسلمون: قال تعالى في كتابه الكريم: {إنا نزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين} (سورة الزمر، الآية: 2)، أين يكون صحيحاً سليماً، ولن يكن كذلك حتى يكون لله وفيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا إبراهيم عليه السلام يعلمنا الدعاء: {ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم} (سورة الشعراء، الآيات: 78 – 89).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك قلباً سليماً" فهو سليم من الآفات والمكروهات كلها.
والله أخبر عن هذه المسألة الرهيبة يوم القيامة: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} (سورة الفرقان، الآية: 23).
{لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم} (سورة آل عمران، الآية: 188).
يأتي كثير من الناس منهم من يحمل بناء مسجد أو صلاة ذكر لله علماً قرآناً كل ذلك هباء منثوراً.
وكذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن أول الناس يقضي عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت حتى استشهدت، قال: كذبت ولكن قاتلت لأن يُقال جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار" (حديث صحيح، أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه).
ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، لكنك تعلمت ليُقال عالم، وقرأت ليُقال هو قارئ فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار.
ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فاُتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال: كذبت ولكنك فعلت ليُقال هو جواد، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه ثم أُلقي في النار.
فدل ذلك على أن هؤلاء ظاهر أعمالهم مقبول عند الله عز وجل، ولكنه لم يقبل لأنهم لم يخلصوا لله رب العالمين، وإنما فعلوا ذلك رياء وسمعة، فكان مصيرهم النار ولذلك في الحديث القدسي عن الله عز وجل: "أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" (في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "يقول تبارك وتعالى...").
الإنسان إذا انطمست عنده معاني الإخلاص والصدق أصبح لا يراقب إلا الناس ومدحهم له والثناء عليه وتكون فيها المهلكة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجل جاء يمدح أخاه قال: قتلته قطعت عنقه، انثروا في وجه المداحين التراب لأن الإنسان عندما يُمدح يُربونه على حب المدح وينسى عطاء الله وثوابه والعمل المخلص لله رب العالمين.
وإذا أردت أن تعرف نفسك فليستوي عندك مادحك وذامك، سواء في الحق والباطل، أما إذا جاءك الذي يمدح فرحت، وجاءك الذي ينصح غضبت راجع نفسك في نيتك.
ألم تسمع لقوله تعالى: {ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن} (سورة النساء، الآية: 125).
وهذا هو المذكور في قوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} (سورة الكهف، الآية: 110).